الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
التفسير: «عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال: فاسألوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به. فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك»- ويروى عكاشة بن محصن- يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله إن قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار. ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا. فأنزل الله هذه الآية. فهي عائدة إلى قوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} كأنه قال: ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما شق عليكم. وأيضًا كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكيًا عنهم {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} [الإسراء: 90] إلى تمام الآية. وكان لبعض المسلمين أيضًا ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} [النور: 29] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم. وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه، فقال الخليل وسيبويه: أصلها «شياء» على وزن «حمراء» فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه «لفعاء». وقال الفراء: أصلها «أفعلاء» بناء على أن «شيا» مخفف شيء يقال «هين «في» هين» وقد يجمع «فيعل» على «أفعلاء» كنبي وأنبياء، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي «أشياء» على وزن «أفعاء».وقال الكسائي: وزنها «أفعال» ومنع الصرف تشبيهًا له بحمراء. ولا يلزم منه منع صرف «أبناء» و«أسماء» لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصورًا على المسموع. والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليه تكاليف شاقة صعبة. فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظّم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسالته».وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه. وقال أبو ثعلبة إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودًا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن} أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم {تبد لكم} تلك الأمور أو التكاليف. فالحالصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم. وقيل: السؤال قسمان: أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله: {لا تسألوا} والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله: {وإن تسألوا} رفعًا للحرج وتميزًا لهذا القسم من الأوّل. وإنما حسن عود الضمير في {عنها} إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين، لأن كلًا منهما مسؤول عنه في الجملة. وقيل: المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم. والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أولًا ثم يسأل {عفا الله عنها} أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا إليها، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف. وقيل: إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها. والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث «عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» أي خفف عنكم بإسقاطها {قد سألها} يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا {قوم من قبلكم} سأل الناقة قوم صالح فعقروها، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالًا عليهم، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعًا.ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها. ومعنى {ما جعل} ما حكم بذلك ولا شرع. والبحيرة «فعيلة» من البحر الشق. وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول. قال أبو عبيدة والزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرًا شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجًا. وأما السائبة فإنها فاعلة من «ساب» إذا جرى على وجه الأرض. يقال ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرًا أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها. وقيل: هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعًا وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب الأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. وقيل هي العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا ميراث وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، إن ولدت ذكرًا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وأما الحامي فيقال: حماه يحميه إذا حفظه. قال السدي: هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وقيل: إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت. فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فام لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معينًا له على ما خلق لأجله، أما العجم من الحيونات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها.وأيضًا الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق. {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه «لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه» والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم {وأكثرهم لا يعقلون} يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله: {وإذا قيل لهم} الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة. فنفى العقل عنهم هناك والعلم هاهنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل. قال أهل البرهان: العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل، وكان دعواهم هاهنا أبلغ لقولهم {حسبنا ما وجدنا} فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ. ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه. تقول العرب: عليك زيدًا وعندك عمرًا يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل: خذ زيدًا فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه. وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف، بل الجار والمجرور معًا منقول الى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي أسم فعل. فإن قيل: ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال: إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضوعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى {عليكم أنفسكم} احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضًا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات {لا يضركم} ضلال {من ضل إذا اهتديتم} فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} [النساء: 84] وقيل: إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الأنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله. وكان ابن شبرمة يقول: من فرَّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وقيل: إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب: عجبًا من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق. وقيل: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال: إن هذا في آخر الزمان. ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرًا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله» وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت.ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله: {عليكم أنفسكم} أمر بحفظ المال. عن ابن عباس أن تميمًا الداري وأخاه عديًا- وكانا نصرانيين-، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص- وكان مسلمًا مهاجر- خرجوا للتجارة. فلما قدموا الشأم مرض بديل فكتب كتابًا فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشًا بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومعنى {شهادة بينكم} شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر. وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند النزاع {وإذا حضر} ظرف للشهادة {حين الوصية} بدل منه. وفي هذا دليل على أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان.وارتفع {اثنان} على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم أن يشهد اثنان. وفي قوله اثنين، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان. وفي قوله: {منكم} و{من غيركم} قولان: فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن {منكم} أي من أقاربكم و{من غيركم} أي من الأجانب. والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين. وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به. وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريح وابن سرين أن {منكم} أي من أهل ملتكم و{من غيركم} أي من كافر كان يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا أو عابد وثن. قال الشافعي: مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليًا عليها فأخبراه بالواقعة. فقال أبو موسى: هذا أمر لم يقع بعد النبي صلىلله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما. والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في {منكم} لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطًا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضًا بالاتفاق، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه ألبته، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلمًا ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة. وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة. وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالبًا. ومما يصلح أن يكون مؤكدًا لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخًا لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولًا قوله تعالى: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد، ولا كذب أعظم من الفريه على الله تعالى وعلى رسله.
|